القتل العقائدي في غزة- قراءة في الخلفيات الدينية للعدوان

أفادت أحدث إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية بأن حصيلة العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة قد ارتفعت بشكل مأساوي منذ السابع من أكتوبر، لتلامس قرابة أربعة وأربعين ألف شهيد، بينما تخطى عدد الجرحى والمصابين من أبناء غزة الأبية حاجز المئة ألف.
صحيح أن الشعب الفلسطيني المناضل قد خبر طويلاً فتك آلة القتل الصهيونية على مدار تاريخه المديد في الصراع المرير مع المحتل الغاصب، إلا أن تلك المجازر البشعة لم تأتِ دفعة واحدة، بل كانت متفاوتة من حيث الحجم، والتوقيت، والنطاق الجغرافي.
فقد شهدنا مجزرة حيفا المروعة عام 1937، ومذبحة باب العامود الدامية عام 1947، ومأساة الطنطورة في عام 1948، ومجزرة كفر قاسم البشعة عام 1956، ومخيم تل الزعتر عام 1976، وفظائع صبرا وشاتيلا في عام 1982، علاوة على مذبحة الأقصى عام 1990، والحرم الإبراهيمي الشريف عام 1994، والقائمة تطول وتطول.
وإذا كانت تلك المجازر قد وقعت على فترات متباعدة عبر الزمان، فإن الجرائم الصهيونية منذ طوفان الأقصى قد اتسمت بالشمولية والكثرة. ففي غضون يوم واحد، يمكن للقوات الصهيونية الغاشمة أن ترتكب سلسلة من المجازر المروعة في مختلف أنحاء غزة المحاصرة. وغالبًا ما تصاحب عمليات القتل والتدمير مشاهد احتفالية تنم عن سادية متأصلة.
يهدف هذا المقال إلى استكشاف الخلفيات العميقة لتلك الروح العدوانية المتفجرة التي طغت على مرتكبيها، حتى بات من النادر أن نجد لها مثيلًا في سجلات التاريخ. إذ لا يمكننا أن نفهم هذه الشراهة غير المسبوقة في القتل إلا من خلال تجاوز التحليل السطحي والانتقال إلى مستويات أكثر عمقًا، وهي المستويات التي ترتبط بما يسميه الدكتور عبد الوهاب المسيري "النماذج الإدراكية الكامنة". ولكي نتتبع مسار هذه الخريطة الإدراكية، يتعين علينا أن نتفحص الكيفية التي يتم بها استغلال النصوص الدينية في إدارة هذا الصراع المرير.
الادعاء الديني في فلسطين
إن الكيان الصهيوني هو عبارة عن تجمع استيطاني يسعى جاهدًا لتوظيف "الديباجات اليهودية". فكثيرًا ما تعمد الدعاية الصهيونية لتبرير اغتصاب فلسطين إلى التركيز على فكرة "الوعد الإلهي". فالأرض الفلسطينية التي "تفيض لبنًا وعسلًا" كما يصفها الكتاب المقدس، هي تلك الأرض التي وعد الإله "يهوه" النبي إبراهيم عليه السلام بمنحها له ولنسله من بعده، قائلًا له: "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات".
وبالتالي، تتحدد طبيعة العلاقة مع الأرض من خلال الترنسفير أو "تصفية الدياسبورا" عبر تسهيل الهجرات اليهودية المكثفة نحو أرض فلسطين. فقد ارتكز المشروع الصهيوني في جوهره على فكرة ضرورة بناء وطن قومي لليهود، على أن يمتد هذا الوطن على كامل الحدود التاريخية التي حددتها التوراة: "من الفرات إلى النيل".
وهي ذات الحدود التي أعلنها ديفيد بن غوريون أمام الكنيست في عام 1956. ووفقًا لهذا التصور، يجب على جميع اليهود في العالم أن يهاجروا إلى هذه الأرض لكي يؤسسوا الدولة اليهودية الخالصة.
وقد عبّر وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، موشيه ديان، بعد نكسة عام 1967، عن هذه العلاقة الوثيقة بين التوراة والأرض، قائلًا: "إذا كنا نملك التوراة، ونعتبر أنفسنا شعب التوراة، فمن الواجب علينا أن نمتلك جميع الأراضي المنصوص عليها في التوراة". فالسيادة المطلقة على أرض فلسطين تبررها أحكام الشريعة اليهودية ونظرية "الخلاص".
وقد عوقب إسحاق رابين بالقتل الشنيع، بسبب قبوله بـ "السلام" مع الفلسطينيين، والذي تعهد بموجبه بالتنازل عن جزء من الأرض التي طالما اعتبرت جزءًا أصيلًا من دولتهم التاريخية. والقتل هو "أمر الرب" وفقًا لما روج له القتلة المجرمون. أما السكان الأصليون، فيصبحون بموجب هذه الأيديولوجية مشروعًا للقتل والطرد والتهجير القسري.
القتل العقائدي
لقد وصف ثيودور هرتزل الصهيونية بأنها "فكرة استعمارية" نشأت في سياق التوسع الإمبريالي. ومن ثم، ورثت الصهيونية العنف الكولونيالي، والتقوقع القومي، والرغبة الجامحة في تحقيق أقصى قدر من الربح. ونتيجة لذلك، فإن الدولة الصهيونية "لا يمكن أن تعيش في سلام"، وهو ما جعل إدارة الحرب أحد العناصر الأساسية في تماسك المجتمع الصهيوني.
وهكذا، جرت عسكرة الدولة بشكل كامل، كما جرت عسكرة المجتمع بأكمله. ولم يكن هذا الخيار القاسي مجرد عملية عابثة، بل كان تجسيدًا أمينًا "للخريطة الإدراكية للعقل الصهيوني" في نظرته إلى الصراع. فخلف الممارسات الصهيونية الوحشية تكمن مجموعة من التبريرات المتراكمة التي تمثل خليطًا من المرويات الدينية والأساطير الزائفة. والأسطورة، حين يتم استدعاؤها من غياهب الماضي البعيد، تتحول إلى أداة قوية للتعبئة والاستنفار، حيث يسكنها دائمًا "شبح مقاتل" كما يقول الكاتب الكبير حسنين هيكل.
لقد اختزل العالم في العقيدة الصهيونية إلى فئتين: أخيار وأغيار. ومنحت هذه العقيدة للأخيار الحق المطلق في تصفية الأغيار، سواء كانوا أفرادًا أو رموزًا أو مدنًا بأكملها. فيصبح "كنعان ملعونًا"، وتصبح المدن مباحة للتجريف والتدمير، ويصبح السكان هدفًا للتقتيل والتهجير القسري. فالإله "القومي" قد أفتى لأتباعه قائلًا: "دمروا المدينة واقضوا بحد السيف على كل من فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ حتى البقر والغنم والحمير".
وقد خلد النص التوراتي مجزرة أريحا التي وقعت قبل ثلاثة آلاف عام، حين اجتمع الغزاة بعد سنوات التيه، فـ "أهلكوا جميع ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل رضيع، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف وأحرقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار إلا الذهب والفضة وآنية النحاس فإنهم جعلوها في خزينة الرب".
وقد ظلت تلك المذبحة، كما وردت في التوراة، تُستعاد باستمرار على مر تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني الغاصب. وهو ما يفسر لنا سبب المجازر الصهيونية المتواصلة في فلسطين منذ ثلاثينيات القرن العشرين.
فاغتيال الشيخ عز الدين القسام لم يكن الخطيئة الأولى، ولن يكون اغتيال إسماعيل هنية أو حسن نصر الله أو يحيى السنوار هو الجريمة الأخيرة على قائمة الجرائم الصهيونية، فهناك تاريخ طويل من الدم المستباح، بدءًا من فؤاد حجازي ورفاقه الأبرار، وصولًا إلى رموز النضال الوطني والإسلامي بجميع انتماءاتهم. ففي مجرى التأويل الديني المنحرف، يصبح كل مقاوم مشروعًا للقتل، وتصبح كل المدن المعادية هدفًا للاستعباد والاستعمار.
وانطلاقًا من هذه القناعة الدينية المتطرفة، تصبح غزة – المدينة الصامدة – في استحضار لتلك التجارب وتلك التمثلات، مدينة مباحة.
مفردات القتل في السادية الراهنة
لقد تأسس التاريخ الصهيوني على النشاط الدؤوب للعصابات الصهيونية الإرهابية التي لم تدخر وسعًا في سفك الدماء. ومع النكبة المشؤومة، تحولت هذه العصابات إلى جيش نظامي احترف القتل والتهجير والتدمير الممنهج. فمن نظرية الجدار الحديدي المزعومة، وصولًا إلى خطة الجنرالات، ومرورًا بخطة الضاحية، كانت الخطط العسكرية الصهيونية تتفنن في الإبادة الجماعية.
وقد ظل زئيف جابوتنسكي هو الملهم والمرشد الرئيسي لتيار اليمين المتطرف على مر التاريخ الصهيوني. ونتنياهو ليس إلا امتدادًا لهذه المدرسة الفكرية المتطرفة. وقد طغت على خطابه لغة الحديد والنار التي تتغذى من القناعة الراسخة بأن الفلسطيني ليس "كائنًا إنسانيًا له قيمة معترف بها". لذلك، لم يكن من المستغرب أن ينزلق الخطاب الصهيوني بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول إلى مستويات غير مسبوقة من نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين.
وكان وزير الدفاع المخلوع أول المبادرين إلى ذلك التحريض البغيض. فقد وصف الفلسطينيين بـ "الحيوانات البشرية". والفلسطينيون في الخطابات الموتورة لنتنياهو هم "الوحوش المتعطشة للدماء"، وهم "أبناء الظلام"، وهم الهَمج والبرابرة، وهم الوحوش التي تقتل الأطفال الأبرياء".
ويجد نتنياهو تبريرات لخطابه التحريضي في عقيدته الدينية المتطرفة، فيرى في معاركه تلك، المعارك التي كانت أو تلك المعارك التي يمكن أن تكون (هرمجدون). ويستشهد بالقصة التوراتية عن التدمير الكامل "للعماليق" على يد الإسرائيليين. فمعه يعاود التاريخ نفسه، ليجد نفسه وهو غارق في الدم الغزي يقاتل "الأغيار" من منظور العقيدة. وفي العقيدة نفسها، ليس الصهاينة إلا أولئك الأخيار الذين يتماهون مع الخير والنور والحضارة.
وقد تجاوز بنكُ الأهداف عند إيتمار بن غفير، الذي تربى على تطرف مائير كاهانا، رجالَ المقاومة الأبطال، ليشمل "أولئك الذين يحتفلون وأولئك الذين يدعمون وأولئك الذين يوزعون الحلوى، فكلهم إرهابيون يجب تدميرهم".
ويتشفى وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو بمشاهد التدمير والخراب في غزة. فهي في نظره "متعة للعيون". ولا يجد أي حرج في الدعوة الصريحة إلى شنّ هجوم نووي على غزة. سادية لا تجد تفسيرًا لها إلا في نصوص توراتية تلمودية ترى في القتل "واجبًا شرعيًا".
فكل المذابح تشبه إلى حد بعيد مذبحة أريحا. وكل الأغيار هم بمثابة العماليق. وفيها جميعًا تتكرر فصول الإبادة الجماعية، وإهلاك الحرث والنسل، وإحراق كل منجز، وتدمير كل ما هو متحرك. وهم في كل ذلك، يلتزمون بتعاليم أسفارهم المحرفة.
ومما لا شك فيه أن تكثيف ذلك المعجم الديني في الخطاب الصهيوني يدل بوضوح على عمق التحول الذي شهده المجتمع الإسرائيلي نحو الصهيونية الدينية المتطرفة مع صعود اليمين الديني المتطرف.
وهكذا، فإن الموت يوزع على طول القطاع وعرضه باسم العقيدة القاتلة. وحين تغيب الأهداف العسكرية عن الجندي الصهيوني، يصبح كل ما يتحرك هدفًا مشروعًا. ليس بالضرورة أن تكون مقاومًا كي تكون عرضة للاستهداف. ففي مسرح العمليات الصهيوني الدموي، لا قيمة للهويات. وآلة الحرب لا تستثني أحدًا. والكل في بنك الأهداف سواء.
بل إن هذه الشراهة المفرطة في القتل قد تجاوزت البشر لتطال عناصر الحياة الأساسية في غزة: الماء والغذاء والدواء والهواء، بل وحتى "قتل المكان" نفسه، فضَربت خزانات المياه، ومَنعت دخول المواد التموينية، وشلت حركة المستشفيات، واستَهدفت الطواقم الطبية وشبه الطبية، ومَنعت وصول الدواء، ولو استطاعت لمنعت الهواء عن أهل غزة الصامدة.
ولا نجد في ختام هذا الحديث عن الخلفيات العقائدية للمحرقة الصهيونية في غزة، ما هو أبلغ مما قالته حنه آرنت عن الفاشية الصهيونية وهي تتورط في فلسطين: لقد أصبحت "تقوم بتبادل الأدوار مع هتلر".